نص غرائبي متناثر تهيمن عليه حاستا الشم والسمع، محوره هبوب رياح لثلاث ليالٍ وهو الحدث الرئيسي الذي منه كان التشظي إلى شذرات قصصية من ثلاثة فصول رئيسية والعشرات الفرعية شكّلت متتالية قصصية تنتمي لعالم الواقعية السحرية. تبدأ القصة من الحافة الوجودية، أي من الموقف، فهو الذي تعوّل عليه الكاتبة السعودية، لا الحكاية. تضع عائشة مختار في نصّها المُربك مجموعة من الشخصيات في موقف معيّن لترى كيف ستتصرف.
في العالم الخيالي ذي التفاصيل الواقعية الذي بنته لمتتاليتها السردية «الريح لا تستثني أحداً»، تظهر الشخوص مطموسة، لا نعرف لها أسماء، بل نعرفها بما يميزها مثل: السائل الذي أحب العجين، والرجل الذي رقص مع الذئاب، والعجوز التي رأت الحقيقة، والسائلة التي استبدلت قلبها، وتلك التي لعنت الشمس، والأخرى التي تحلم، والسيدة التي نبت الشوك في قلبها. تشترك الفصول، التي هي أشبه بقصص منفصلة، في الحدث والشعور والشخوص لترسم لوحة فسيفساء عن الفقد والخطيئة والأمومة، وتعطينا صورة أكبر للمتتالية القصصية.
يبدأ النص، الحائز على جائزة الشارقة للإبداع العربي والصادر عن «منشورات حياة» في 122 صفحة، بالموقف أو الحدث كالتالي: عاثت الريحُ في القرية طوال الليل، وحين خفتت بحلول الفجر، كان الناس عراة لا يتذكرون شيئًا مما جرى!
نزعت الريح في ليلتها الأولى أخلاق الناس وذكرياتهم. تركتهم عراة لا يفهمون ما حدث. سمعوا في منتصف الليل تأوّهات رجل وامرأة متحابين، بعدها عمّت الأرجاء رائحة طاغية لا يشمها إلا الرجال طوال تسعة أشهر. خفتت الرائحة مع ميلاد أبناء الريح من أرحام فتيات عازبات يعرف الناس أسماءهن ولا ينطقونها رغبة في الستر ودرءًا للعار.
«كم بذرة سقطت في أرحام نسائكم ليلة الريح؟ وكم طفلًا خرج وسيخرج لا تعرفون له أبًا؟!». الكثير من الأطفال فقدتهم أمهاتهم، وبقي من أبناء الريح طفلان مباركان منحهما الناس القداسة: هما الرجل الذي تكلم ثم صمت، والرجل الذي سيحب التجوال، وكلاهما من الشخصيات الرئيسية التي قُسمت على أساسها فصول المتتالية القصصية.
مع اختفاء الرائحة، التي خيّمت منذ انقضاء الريح بميلاد الأطفال، تبدأ نبوءة الرجل الغريب صاحب الفحولة الفائقة في الحدوث. قدم الرجل إلى القرية قبل هبوب الريح وأربك سكونها بسمته الهادئ وعينيه الغائرتين، وألقى نبوءته: «الريح ستأكل وجوهكم»، في إشارة للخزي الذي ستجلبه على أهل القرية التي ستشهد ميلاد أطفال لا يُعرف آباؤهم. يقتل أهل القرية الغريب وزوجته ويتركون طفلتهما التي تصبح الفتاة التي لم يعرف أحد اسمها، تلك الثابتة وكل ما حولها في تغيّر. هذه الفتاة هي عنوان الفصل الثالث الرئيسي والأخير، والتي تجلب على القرية لعنة النهاية المؤلفة من حكاية حزينة من سبع كلمات هي: «كل عينين محبوبتين ستتحولان إلى حفرتين قبيحتين».
للريح هنا رمزية لا يمكن إغفالها؛ قد تعني التغيير والتحول في المصائر والأحوال، رمزاً لبداية أو نهاية ما، مثلما تندثر القرية بنهاية النص. وقد تدل على القوة والغموض باعتبارها قوة طبيعية وغير مرئية، يمكن أن يُقصد منها قوى خفية أو قدرات لا يمكن التنبؤ بها، وهي قدرات الغريب المهولة مع زوجته، التي تصل إلى مسامع أهالي القرية وتتحكم في مصائر شخصيات العمل الأدبي. ربما الريح دلالة أيضًا على اضطراب أو صراع داخلي ينتشر في مجتمع القرية ويتعلق بفحولة الرجال، أو أنها ترمز إلى الروحانية ووجود قوى غير مرئية تربط الأرض والسماء، وهو ما نجده في تساؤل أحدهم: هل حقاً انكشف الحجاب بين الجن والإنس؟ أو أنها تربط الحياة والموت أو الدنيا والبرزخ أو العالم الآخر، وهو بالفعل ما يحدث لبعض الشخصيات التي نجدها تنتقل بين العالمين في الأحداث.
مثلما طُمست أسماء الشخوص، طُمس أيضاً المكان، فلم نعرف عنه سوى أنه قرية نائية عن المدينة. أما الزمان، فتنقل بين البراءة، والانتظار، والكلام، والبتر، والحيرة، والصمت، والتحرر، والخطايا التي لا تُرى، والفضول، والأسئلة، والتجوال، والانتباه، وأخيراً زمن الحقيقة، وكأنها مراحل زمنية لعيش الإنسان. نشهد في السرد أحداثاً خيالية من استبدال قلب حمامة بقلب بشري، وقطع أعضاء في جسم الإنسان ودفنها ثم استعادتها وتركيبها لآخرين، كما نرى نجمة تحزن حتى الموت، وسيدة تقطع جزءاً من قلبها. وتظل الهيمنة للريح على السرد كله وشخوص العمل باعتبارها البطل الرئيسي.
النص يكتنفه الغموض ويحتاج إلى قارئ مفكر يحاول فك ألغازه، التي قد تستمر بعد القراءة، إذ لن يستطيع في الغالب الإحاطة بأبعاد النص أو على الأقل في القراءة الأولى.